آراء ومقالات

الاستاذ مصطفى عليش يكتب : الإنسانية بين نُبل العطاء وتجارة المعاناة رسالة في بريد الكل

الإنسانية بين نُبل العطاء وتجارة المعاناة رسالة في بريد الكل

بقلم:مصطفى عليش

في بلاد أنهكها الألم، وفي وطنٍ يئنّ تحت وطأة الحروب والتشظي، ما عاد التمييز بين الفعل الإنساني النبيل والمتاجرة بالبؤس أمراً سهلاً. السودان، ذلك الجرح المفتوح على خارطة العالم، لم يعد يحتمل المزيد من التكسّر، لا في جغرافياه ولا في أرواح أهله.
من رحم الكارثة، ووسط الركام، خرجت مبادرات إنسانية صادقة، تلملم الأوجاع وتكفكف الدموع، وجوهٌ لا تُعرف بالأسماء، لكنها خلدت في ذاكرة الوجدان السوداني، لأنها بذلت دون منّ، وأعطت دون مقابل، وسهرت كي لا ينام الجائعون على صراخ بطونهم.
لكن ويا للأسف ليس الجميع من هذا الطين الطاهر. فكما أن هناك من مدّ يده ليعطي، هناك من مدّها لينهب، لا المال فقط، بل الكرامة، والثقة، والإيمان بالقيم.
تسللت إلى العمل الإنساني نفوس فقدت بوصلتها الأخلاقية، وجعلت من معاناة الناس موسماً للربح، ومن دموعهم سلعة تُعرض على أرصفة الإعلام، ومن حزنهم سلّماً للترقي في هرم الشهرة أو النفوذ. لم تعد المبادرات كلها لوجه الله، بل بعضها أصبح وجهاً مستعاراً لقلوب مغلقة، لا تسمع أنين الأمهات، ولا ترتجف لصرخات الأطفال.
ما أكثر أولئك الذين يجيدون الحديث باسم المحتاجين، لكنهم لا يحسون بهم. يتاجرون بوجعهم، يقتاتون على حاجتهم، ويُخزِّنون العيش والدواء والكساء ليبيعوه لاحقاً على هيئة مِنّة أو شرط انتماء أو ولاء أو تضخيم ثروة في زمن الحاجة .
إلى هؤلاء نقول: ليس هذا عملكم، بل جريمتكم. ليس هذا فعلكم، بل سقوطكم. الإنسان حين يفقد ضميره لا يعود صالحاً للحياة بين الناس، فكيف إن كان يتسلّق على حطام المنكوبين؟
لا توجهوا سهام أفعالكم إلى من لا حول لهم ولا قوة. إن ما تفعلونه لا يقتل فقط، بل يُميت الثقة في كل شيء جميل. لا تساهموا في جريمتين متتاليتين: الأولى أن تغضّوا الطرف عن معاناة من حولكم، والثانية أن تستثمروا في تلك المعاناة لصالح ذواتكم الضيقة.
رسالتي ليست لأولئك الذين أنفقوا وأعطوا، فهؤلاء أدوا ما عليهم، وبذلوا ضمائرهم قبل أموالهم. رسالتي إلى من لا يزال في قلبه رمق ضمير، ويعرف في نفسه أنه انحرف عن جادة الإنسان. عودوا، ولو متأخرين، إلى إنسانيتكم. كفوا عن الاتجار بدموع من لا يملكون ثمن الدواء ولا قوت اليوم. كونوا بلسمًا لا خنجرًا. صوتًا لا صمتًا. ظلًا وارفًا لا عبئًا جديدًا في طريق المحتاج.
هذا المقال لا يخص جهة واحدة، بل كل فرد، كل مبادرة، كل جسم تطوعي. لأن العمل الإنساني لا يُقاس بعدد الصور، ولا بكمية التوثيق، بل بمدى الصدق، ومدى الأثر، وعمق النية.
فليكن عطاؤكم خالصًا، ولتكن إنسانيتكم بوصلتكم. فما أكثر الآلام، وما أندر القلوب التي تحتملها لا من أجل السمعة، بل من أجل الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى