
قضايا إجتماعية مسكوت عنها
بقلم: مصطفى عليش
في بيوت كتيرة في السودان، بنلقى مشهد بيكسر القلب، لكنه بقى مألوف لدرجة الناس بقت تتجاوزه بدون ما توقف عنده. تلقى أسرة واحدة، أولاد وبنات طالعين من نفس الرحم، لكن حياتهم مختلفة شديد، كأنهم ما من بيت واحد. تلقى زول من أولاد الأسرة دي نجح، وربنا وسّع عليه في الرزق ، بقى عنده بيت ملك، عربية فخمة، دخل ثابت، وعايش مرتاح. لكن في نفس اللحظة، تلقى أمه قاعدة في بيت طين مشقق، سقفه مهتري او في قطية مشلعة ، وأبوه قاعد في حوش مليان نفاجات، وأخوه الصغير شغال على درداقه في السوق، شقيان من الصباح للمغرب، وعياله قاعدين في البيت ما قادرين يمشوا المدرسة، وما عندهم حتى حق الفطور.
الزول المقتدر دا يجي صباح، ينزل من عربيته، يسلم على أمه وأبوه، ويسألهم إن شاء الله كويسين، وهم بحياء وبكرامة يردوا عليه “الحمد لله كويسين”، مع إنهم ما كويسين، لكن ما دايرين يظهروا الحاجة. وبعد داك تلقاه مشى السوق، قابل متسول في الشارع، ادى ليه مبلغ محترم، أو دخل مناسبة أو عزاء وقدم مبالغ كبيرة عشان الناس تشوف كرمُه. لكن لو جا أخوه وقال ليه “أولادي ما لاقين حق المدرسة”، يرد عليه بهدوء: “والله يا زول أنا ملتزم مع ناس، ما عندي هسي، تعالني بعدين.”، وفي نفس اللحظة تلقاه ساعد زول غريب مساعدة كبيرة، بدون ما يتردد، وبدون ما يحسب حساب.
الناس بقت تربط النجاح بالفصل بينك وبين واقعك القديم. كأنك عشان تكون ناجح لازم تتخطى ناسك، وتخليهم في الخلف، وما تشوف وراك. بقى في ناس بتخاف لو ساعدت أهلها كتير، يربطوهم معاهم، ويكونوا عبء عليهم، فبقوا يعملوا حاجز نفسي، ومالي، وعاطفي، كأنهم بقطعوا الحبل السُرّي البيربطهم بأسرتهم. وده حصل ليه؟ لأنو المجتمع بقى يدي الاحترام للزول البينفق في العلن، البيدفع في العزاء، البيدي الغريب، لكن لو صرف على أمه ولا على أخوه، ما في زول بشوف ولا بشكر، فبقى الزول داير الوجاهة الاجتماعية، يلمع نفسه قدام الناس، ولو داخل البيت في ضيق، ما مهم.
الوجع الحقيقي هنا إنو الروح الجماعية بتاعة الأسرة السودانية بقت تضيع، والأنانية لبست ثوب جديد اسمه “الاعتماد على النفس”، وكأنو النجاح الشخصي ما بيكتمل إلا بفصل الروابط، رغم إنو الدين وضّح إنو الإنفاق على القريب مقدم على غيره، بل أجره مضاعف. الرسول ﷺ قال: “الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة”. يعني لو ساعدت أمك ولا أخوك المحتاج، إنت بتاخد أجر الصدقة وأجر صلة الرحم مع بعض، وربنا يبارك ليك في مالك، ويزيدك، مش يقلل.
الزول الناجح البنسي أمه التعبانة، أو أخوه المحتاج، عشان يدي زول غريب، ما فاهم النجاح صح. النجاح الحقيقي هو لما تكون سبب في إنو أولاد أخوك يمشوا المدرسة، ولما تشتري لأبوك دواء، ولما تفرّح أمك بهدية، ولما تبني ليهم بيت آمن. النجاح ما في صورتك في الفيسبوك، ولا في عدد الناس الكانت في عشاءك، ولا في قيمة الهدية الجبتها لزوجتك ولا في كميت القروش الوزعتها في الاعراس، النجاح الحقيقي هو كم دمعة نشفتها، وكم نفس ضاقت ارتاحت بسببك.
ما في خير في زول مشى على قبر أمه وهو سايبها زمان في وجعها وفقرها، ما في خير في زول صرف ألف جنيه على عزاء، وأخوه ما لاقي حق اللبن لأولاده. الحكاية ما بس أخلاق، الحكاية دين، وإنسانية، ودم، ولحم، وعشرة.
لو لقيت نفسك في الكلام دا، ما تزعل، وما تبرر، بس راجع نفسك. إنت ما ملزم تحل مشاكل كل الأسرة، لكن ملزم تساعد حسب قدرتك، وتبدأ بأقرب الناس ليك. ما تنسى إنو كل خطوة ليك لفوق، محتاجة ترفع معاك زول من أهلك. ما تكون واحد من الناس البتمشي السوق بعربية فخمة، وتخلي أمك مريضة تنتظر زول يمر يشوف حالها. البركة الحقيقية في البيت، والخير البيدوم هو الخير البينطلق من الداخل.



