آراء ومقالات

الاستاذ مصطفى عليش يكتب :للوبي الأخطبوطي: الوجه الخفي لتسريبات محاضر الدولة في السودان

اللوبي الأخطبوطي: الوجه الخفي لتسريبات محاضر الدولة في
السودان

بقلم :مصطفى عليش

في بلد اعتاد أن تُدار فيه شؤون الحكم خلف الأبواب المغلقة، جاءت تسريبات محاضر الاجتماعات الأخيرة بين أطراف العملية السلمية وبعض القيادات الحكومية الرفيعة، كوميض صاعق في ليل طويل من الضباب السياسي. لم يكن وقع الحدث ناتجًا فقط عن الكشف غير المسبوق لمضمون تلك النقاشات السرية، بل في ما أظهرته من واقع أكثر تعقيدًا من مجرد تسريب، واقع تحكمه شبكة متداخلة من النفوذ الخفي، تمارس سلطتها من خلف الستار. شبكة لا تنتمي إلى مؤسسات الدولة الرسمية، بل إلى ما يمكن تسميته بـ”اللوبي الأخطبوطي”.

منذ سقوط النظام السابق، لم تهدأ الأسئلة حول من يحكم السودان فعليًا. فالمشهد السياسي في ظاهره متعدد: مدنيون وعسكريون، حركات مسلحة، قوى ثورية، وإدارات أهلية. لكن كلما اقتربنا من مراكز اتخاذ القرار، نكتشف أن السلطة الحقيقية لا تزال محتجزة في أيدي قلة تُدير المشهد بتكتيكات أمنية، وصفقات سرية، وترتيبات لا يعرف عنها الشارع شيئًا. هذا ما كشفته التسريبات، ليس فقط في مضمونها، بل في توقيتها وطبيعة الأطراف المتحاورة.

المثير للقلق أن الاجتماعات المسربة لم تكن مناكفات سياسية عادية، بل كانت أقرب إلى تقسيم للسلطة والثروة بين أطراف بعينها، وكأنهم أوصياء على الوطن. كان واضحًا أن من يدير الحوار، لم يكن يضع السودان ومواطنيه في الاعتبار، بقدر ما كان يسعى إلى إعادة ترتيب خارطة النفوذ وفق توازنات تضمن بقاء نفس الوجوه، وإن تغيرت أسماؤها أو مواقعها.

لكن ما هو هذا اللوبي الأخطبوطي الذي يبدو حاضرًا في كل تفاصيل الدولة؟ إنه ذلك الكيان غير الرسمي، الذي يضم بين أطرافه قادة أمنيين سابقين، ساسة من النظام البائد، نخب اقتصادية تحتكر مفاصل السوق، وحلفاء خارجيين يجدون في السودان ساحة مصالح قابلة للاستثمار السياسي. يتقاطع هذا اللوبي مع أجهزة الدولة دون أن يكون جزءًا منها. يستثمر في الانقسامات، يُنسّق خلف الكواليس، ويُعيد إنتاج السلطة، لا عن طريق الانتخابات أو المؤسسات، بل عبر الصفقات والتموضعات التكتيكية.

ومن مظاهر هذا التلاعب المحسوب، الظهور الإعلامي المتكرر لبعض الشخصيات الأهلية والإعلاميين المثيرين للجدل، ممن يُستدعون من خلف الظل إلى الأضواء في توقيتات حساسة. هؤلاء لا يقدّمون معلومات بقدر ما يبثون إثارةً وبلبلةً مدروسة، تُربك المشهد، وتخلط الأوراق، وتعيد توجيه الرأي العام بعيدًا عن جوهر الأزمة. إنهم جزء من المسرحية السوداء التي تُدار خلف الكواليس، وتُكتب سيناريوهاتها بدقة لتشتيت الانتباه، وخلق حالة من الشك الدائم بين مكونات الشعب الواحد.

هذه الأساليب ليست عفوية، بل مدروسة. إنها أدوات ناعمة تُستخدم لتهيئة المزاج العام للقبول بما يُحاك، أو لخلق بيئة يسهل فيها تمرير المخططات، دون مقاومة تُذكر. ومع ضعف المنصات الإعلامية المهنية، تتسرب هذه الأصوات بسهولة إلى المشهد العام، وتحتل صدارة الجدل، بينما يُغيّب الوعي الحقيقي وتُهمّش القضايا الجوهرية.

تسريب المحاضر إذًا ليس مجرد خرق أمني. بل هو عرض من أعراض مرض عميق، تجلّت خطورته في طريقة التفكير التي تدير بها نخب ما بعد الثورة الدولة، وفي طريقة تسخير الإعلام والإدارة الأهلية لتشويش الصورة، وليس توضيحها. الأمر لم يعد يتعلق بخيارات سياسية متباينة، بل بصراع بين مشروعين: أحدهما يعمل في العلن ويرنو إلى وطن للجميع، والآخر يتحرك في الظل، ويُهندس كل شيء وفق معادلات ضيقة تخدم مصالحه.

تداعيات ذلك خطيرة. فالشارع الذي فقد الثقة في كل مسار سياسي مُعلن، سيجد في هذه التسريبات وما رافقها من حملات إعلامية مضللة تأكيدًا لما يشعر به: أن اللعبة السياسية في السودان لا تزال مغلقة، وأن “الدولة” لا تزال تحت قبضة قوى الظل. كما أن هذا النوع من الشفافية القسرية، الذي يأتي عبر التسريب لا عبر الاعتراف المؤسسي، يعمّق الانقسام بين النخب والقاعدة، ويغذي مشاعر الإقصاء، واللاجدوى، والرفض التام لكل عملية سياسية.

الأكثر تعقيدًا أن هذا اللوبي لا يواجه خصومًا مباشرين، فخصومه الطبيعيون – من قوى الثورة والمجتمع المدني – منهكون، مشرذمون، ويعيشون حالة من الاستنزاف الذاتي. ومع غياب مشروع سياسي واضح يقابل مشروع اللوبي الخفي، يجد الأخير فسحة للمناورة، ووقتًا لإعادة ترتيب صفوفه بهدوء.

لكن هذا الوضع ليس قدرًا محتومًا. كشف اللوبي الأخطبوطي اليوم هو فرصة للسودانيين لإعادة طرح سؤالهم المؤجل: “من يُدير بلادنا، ولماذا؟” وإذا كانت الثورة قد فجّرت غضبًا مكبوتًا، فإن المرحلة المقبلة تتطلب ما هو أبعد من الغضب: تتطلب تنظيمًا، وشفافية، ومواجهة حقيقية مع البنية العميقة التي تُمسك برقاب الدولة منذ عقود.

لقد آن الأوان لكسر هذا الاحتكار الخفي للسلطة. آن الأوان لإعادة تعريف من يملك الشرعية، لا من يملك السلاح أو المعلومة أو القدرة على التسريب. فالسيادة لا تُسرب، بل تُنتزع عبر الوعي والمحاسبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى