
بقلم: عبير نبيل محمد
سودانا فوق.. المشتركة فوق
تردد على مسامعنا تلك الكلمات منذ أن انضمت للصفوف، رغم أنها كرهت لغة الحروب. جاءت بسلام، يداها بيضاء، لم تحمل سلاحًا، ولم تسعَ لقتال. كانت تؤمن أن الوطن لا يُبنى على الدماء، بل على الوحدة والعدل. لكنها حينما اشتعلت الحرب، لم تخن ولم تتراجع، بل كانت نورًا وعونًا، واقفة في الصفوف الأمامية دفاعًا عن الأرض والعِرض. لم تطالب أن يُذكر اسمها، ولم تسعَ للمجد الشخصي، لأنها كانت ولا تزال ترى أن الوطن فوق الجميع.
اليوم، لم يعد هناك انقسام بين من كان يرفض الحرب ومن خاضها مجبرًا، فالكل صار وطنًا، الكل أصبح جرحًا واحدًا، ودمًا واحدًا. لم يعد هنالك فرق بين من حمل السلاح ومن دافع بروحه وكلمته، فالوطن يضم الجميع، ولا يقبل الخيانة أو التفريط.
النصر قد أتانا ولم يكن محال.. الجزيرة، ود مدني، الخرطوم، وكل شبر دُنِّس من قبل الميليشيات، رغم ما تُقاسيه هذه المدن منذ أعوام وأعوام، والكل يُدرك جيدًا الوضع قبل الحرب والآن. إذن، لِمَ نصنف أبناءنا؟ لِمَ نترقب تصريحًا واحدًا ونبني عليه ألف احتمال؟ وكأنما الكل يترقب الخلاص منهم.. من هم؟ ومن نحن؟ ومن منهم أبناء السودان؟!
مسك الختام.. فاشر السلطان! لكِ الله يا فاشر، يا أرض الصبر والجراح، يا مدينة احتضنت الألم وعانقت الدموع. كم من عامٍ مضى وأنتِ تنزفين تحت وطأة العذاب، كم من مرة سقطتِ ونهضتِ رغم الجراح، كم من روحٍ رحلت، وكم من دمعةٍ لم تجد من يمسحها! لكن، رغم كل ذلك، ها هي بشريات النصر تلوح في الأفق، ها هو ضوء الفجر يقترب، فقد آن للوجع أن ينحسر، وآن لهذا الوطن أن ينهض من جديد.
إذا كنا نحسب ونقسم حسب اللون، إذن…
قسموها إن كان خيرًا… قسموها أرضي، قسموها بغباء، قسمونا، والجهل سيدٌ يحكم فيكم. قسموها، ودعوا نار الفتنة تحرق أجسادكم وتتحول إلى رماد. قسموها أرضي من أجل الزيف والخداع. قسموها، وليكن الثمن عرض النساء. قسموها، افرحوا بها قطعًا وقطعًا، وخذوها معكم إلى آخر الزمان.
قسموها… اجعلوها رمادًا…
إلى متى ننهش في أجساد أحرار الوطن؟ إلى متى الطعن والتفرقة؟ إلى متى نصنّف بعضنا بعضًا؟ وكم من الزمن يحتاج شعب السودان ليفهم، ليستوعب ما يحدث؟ ألم نكتفِ بعدُ من المتاجرة بأرضنا وعِرضنا؟ ألم نتعلّم الدرس بعدُ؟ ألم نخرج ولو بالقليل من العبر من حربٍ سحقت كل شيء؟ إلى متى العنصرية؟
والله، لا نحتاج إلى تدخل خارجي؛ يكفينا أننا نأكل بعضنا بعضًا بصفة العنصرية والكراهية. أنت لك حق! لا، أنت من الشمال! لا، أنت من الغرب! لا، أنت من الشرق! وهذا الجزء الذي أصبح الابن العاق.. جنوب السودان!
لنقسمها… ونغيّر الهوية… اكتب فيها ما تشاء، اقبل الثمن، أرضك وعِرضك، وابتسم واقبل بالعذاب!
إليكم أيها الغافلون، إن أسود المشتركة هم أبناء السودان! لن يقبل رجل واحد أن يُهزم أو يُقسَّم الوطن، مهما كان. من أراد التقسيم والتفرقة والعنصرية، ومن يتفاخر بأنه الأفضل، فليبحث عن وطنٍ آخر.. دَعُوا هذا الوطن بسلام.. فقد كفانا زيفًا وتزييفًا وخداعًا والمتاجرة بدماء الأبرياء.
نحن واحد! لكننا نرسم الأحلام الخادعة، نقول “الكل واحد”، بينما في أعماقنا نمارس العكس.
من أعطاكم الحق؟ من منحكم سلطة الحديث باسمنا؟ من سمح لكم بالمزايدة على حقوقنا؟ ومن قال إن الظلم يُرفع بالصراخ؟
ما أبشع نار الانتقام.. وما أقسى أن يُنصب علينا حاكمٌ يرسم لنا الأحلام، ويُلصِق شريطًا لاصقًا على أفواهنا!
إلى كل من يرتدي قناعًا.. اخلع قناعك!
لقد ولى زمن الأقنعة. إن لم نعدل، لن يُعدَل فينا. إن لم ننطق بكلمة الحق، فلن يتحقق الحق فينا. إن لم نصنع السلام، سيحرقنا من الداخل قبل أن يحرق أوطاننا. السلام ليس وهمًا، وليس كلمات تُكتب في البيانات، وليس انتصاراتٍ زائفةً.. إنما هو العدل، وهو الميزان.
لن يكفينا الدعاء، ما دمنا نتضرع إلى الله وقلوبنا تحمل الكُره والسواد، فالدعاء بلا نية صادقة سلامٌ زائف، لا يغيّر واقعًا ولا ينقذ وطنًا. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.
سلامٌ وأمانٌ.. فالعدل ميزان.