الاستاذ مصطفى عليش يكتب : السودان وطن لا يقبل التقسم

السودان وطن لا يقبل التقسيم
بقلم: مصطفى عليش
لم تكن دارفور يومًا مجرد مشكلة جغرافية، بل هي مرآة تعكس طبيعة الأزمة الوطنية في السودان؛ أزمة العدالة، توزيع السلطة والثروة، الاعتراف بالتعدد، وإدارة وطن خرج من عباءة الاستعمار لكنه لم يغادر طريقة تفكيره. من يطالبون بانفصال دارفور، سواء من أبنائها أو من خارجه، لا يفعلون ذلك حبًا في القطيعة، بل بدافع إحساس عميق بعدم الانتماء، بينما يختصر آخرون تاريخًا طويلًا من الإقصاء والتهميش في وصف دارفور كمصدر للعنف والمشاكل، متجاهلين جذور الأزمة الحقيقية.
دارفور، التي كانت سلطنة مستقلة لها إرث إداري وثقافي عريق، وكانت تتمتع بخصوصية تاريخية وقبلية، ما يجعل التعامل معها بمعزل عن سياقها خطأً جسيمًا. يعاني الإقليم اليوم من أزمة إنسانية كبيرة، إذ يعيش أكثر من ثمانين بالمئة من سكانه في ظروف اقتصادية صعبة مع نقص حاد في الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية سوى كانوا لاجئين او نازحين هذه المعاناة تعمقت بفعل الصراعات المسلحة المتكررة التي نتج عنها نزوح الملايين داخليًا وخارجيًا، وما زالت آثار هذه الأزمات واضحة في حياة الناس ومستقبل المنطقة.
الصراع في دارفور لا يقتصر على نزاعات قبلية أو إثنية كما يحاول البعض تبسيطه، بل هو صراع سياسي معقد، غذته حكومات المركز عبر سياسات فرق تسد، ودعم جماعات قبلية وعرقية على حساب أخرى، مما أضعف النسيج الاجتماعي وزرع بذور الانقسام. إضافة لذلك، لطالما عانت المنطقة من التهميش الاقتصادي والسياسي، حيث تم إقصاؤها من المشاركة الفاعلة في السلطة والقرار، مما أدى إلى غياب التنمية المستدامة وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وأتخاذ المركز سياسة الترضيات لقفل ملف الإقليم السياسي.
فمسؤولية هذا الانهيار ليست منحصرة في الأقاليم فحسب، بل تقع على عاتق نخبة سودانية متخرجة من مؤسسات مثل جامعة الخرطوم، لكنها تربت على مناهج المستعمر وأعادت إنتاج أدوات الهيمنة والإقصاء بدلاً من بناء دولة قائمة على العدالة والمساواة. هذه النخبة ليست فئوية جغرافياً أو اجتماعياً فقط، بل هي فئوية في الفكر والتمكين، تؤمن بالمركزية والسلطة المطلقة لا بالشراكة والعدالة.
بعد اندلاع الحرب الأخيرة، ظهرت سياسات انتقائية في تقديم الإغاثة، والتعامل مع النازحين، والقضايا الإنسانية فضلاً عن التغطية الإعلامية للصراع. فُصلت بعض المجموعات عن حقها في التعاطف والاعتراف، وتم تصنيف آخرين كمنتجين للعنف، وهو خطاب رسّخ الإقصاء الجغرافي والاجتماعي، وارتقى حتى أعلى مستويات الدولة، في وقت كان الوطن بأمس الحاجة إلى خطاب وطني جامع يقوي الوحدة بدلاً من تدميرها. لقد انعكست هذه السياسات على مفاهيم المواطنة، فصار بعض السودانيين يشعرون بأنهم أقل وطنية من آخرين، مما يهدد وحدة النسيج الاجتماعي بأكمله.
الحديث عن انفصال دارفور لا يُعالج بالقمع أو التخوين، بل بفهم السياق الحقيقي. الناس لا ينادون بالخروج من وطن يحتضنهم، بل من وطن لا يعترف بوجودهم الحقيقي. ومع ذلك، فإن الحل ليس في الانفصال، بل في بناء مشروع وطني عادل يعيد الثقة بين المواطن والدولة ويؤسس لوطن يشمل كل السودانيين بلا استثناء. هذا المشروع يحتاج إلى مراجعة جذرية للسياسات المركزية، توزيع عادل للثروة والسلطة، تطوير شامل للبنية التحتية والخدمات في المناطق المهمشة، وتأصيل ثقافة المواطنة التي ترفض التمييز وتحتفي بالتعدد والتنوع.
وحدة السودان لا تُصان بالقوة، بل بالعدالة، ولا تُحمى بالشعارات، بل بالاعتراف والمصالحة، وتوفير فرص متساوية لكل أبنائه دون استثناء.



