الاستاذ مصطفى عليش يكتب : تحت الرماد وطن

تحت الرماد وطن
بقلم: مصطفى عليش
لم نكن نعرف أننا نعيش في نعمة حتى فقدناها. لم ندرك قيمة الوطن حين كان في متناول القلب، ولم نشعر بعمق الانتماء إلا عندما سقطت بيوتنا، وتفرقت أسرنا، وضاع الأمان الذي كنا نظنه دائمًا. الحرب لم تأخذ منا فقط الأشياء، بل سلبتنا الإحساس بما تعنيه. سلبتنا الهدوء، الطمأنينة، الحياة كما عرفناها. كأنها أعادت تشكيل وعينا من جديد، ليس بترف المفكرين، بل بألم النازحين، ووجع اللاجئين، وصمت المكلومين.
في خضمّ كل هذا، عرفنا أن ما كنا نستهين به، كان هو الحياة ذاتها. أن الجلوس مع الأهل، والنوم دون خوف، والمشي في الأحياء والاسواق والقرى والفرقان ، كانت امتيازات لا يشعر بها إلا من حُرمها. وأن السودان، الذي كنا نغضب من فقره وسوء حاله، لم يكن عدونا يومًا، بل كان الضحية مثلنا تمامًا. لم نكرهه، بل كنا نصرخ من شدة حبّنا له وخوفنا عليه.
وأما من كنا نخجل منهم أو نبتعد عنهم بحجّة البساطة أو اختلاف اللهجة أو الانتماء، فقد تبيّن أنهم أول من حملنا عند السقوط. عرفنا أن الأسرة ليست فقط روابط دم، بل ملاذٌ حين ينهار كل شيء. أن من كانت أمه بجانبه في الحرب، كان أغناه الناس. وأن الفقر لا يعيب من فيه الكرامة، وأننا نحن من كنا عميانًا عن القيمة الحقيقية لكل من حولنا.
وسقطت أوهام كثيرة. سقطت الرايات التي فرّقت، والقبائل التي تقاتلت، والأحزاب التي تاجرت بدم الناس. وظهر لنا أن الحلّ لا يأتي من شعار، بل من وعي جديد. من مواطن يفهم أن القبيلة إن علت على الوطن، تهدمه. وأن لا حزب، ولا جهة، ولا زعيم، يستحق أن يُضحّى من أجلهم بالسلام والإنسان.
ثم جاء السراب الكبير: الغربة. حملنا أوجاعنا إلى بلاد لا تعرفنا، وعلقنا عليها آمالًا لا تليق بها. قد نأكل، نعيش، نعمل، لكن الحنين ينهش أرواحنا. عرفنا أن الوطن ليس المكان الأجمل، بل المكان الأقرب. وأنك مهما حصلت على كل شيء خارجه، يبقى فيك شيء ناقص… اسمه أنت في وطنك.
ومع كل هذا، السؤال الآن: هل تغيّرنا؟ هل صارت قلوبنا أوسع؟ هل تخلّينا عن الحقد والتمييز والغرور؟ أم أننا نحمل الحرب داخلنا، نعيدها كل يوم في نظرتنا للآخر؟ الحرب لا تنتهي بانتهاء القتال، بل بانتهاء أسبابها في النفوس. فإن لم نتعلم، عدنا إليها وإن تغير شكلها.
ما زال السودان حيًّا فينا، حتى لو كان جريحًا. وما زالت الفرصة قائمة لنعود إليه مختلفين. بوطنية أعمق، بإنسانية أوسع، بإرادة حقيقية ألا نُعيد ما كان. فإن كان في الحرب درس، فهو أن نُدرك أخيرًا ما يجب أن نحافظ عليه، وما لا يجب أن نخسره مرة أخرى.



