آراء ومقالات

الاستاذ مصطفى عليش يكتب : سماء المعرفة المعلقة بخيوط التضليل

سماء المعرفة المعلّقة بخيوط التضليل

بقلم: مصطفى عليش

في زمنٍ لا يُفرَز فيه الذهب من النحاس ، أصبحت المعلومة عملة السلطة الجديدة. لم تعد الأسوار تُبنى من حجارة، بل من بيانات. ولم تعد الجيوش تحتل الأرض، بل تحتل العقول. من يملك مفاتيح الخوارزميات، لا يحتاج إلى الجدران ولا البنادق؛ يكفيه أن يُلقي على الناس نسخةً واحدةً من “الحقيقة”، ثم يُعيد تدويرها في كل شاشة، وكل سطر، وكل خبرٍ عابر. وهكذا، دون أن يشعر أحد، يُعاد تشكيل الإدراك. لا بالمنع، بل بالإغراق. لا بالكذب، بل بالانتقاء. تُرفَع أصوات، وتُخمَد أخرى. تُسلّط الأضواء على زاوية، وتُظلَّم الزوايا الأخرى. ويستيقظ الناس وهم يظنون أنهم اختاروا، لكنهم، في الحقيقة، كانوا يُقادون بلطفٍ عبر مسارات مرسومة سلفًا. فالتحكم بالمعلومة، ليس مجرد ترفٍ إعلامي… بل هو اليد التي ترسم ملامح الواقع في ذهنك، وتضع حدود السؤال قبل أن تبدأ حتى بالتفكير. وقد يظن البعض أن السيطرة على المعلومة تقتصر على الإعلام العالمي أو اجهزة المخابرات العالمية فقط كلا، ففي السودان، مثلا حيث الحرب تعيد رسم كل شيء، تتحول المعلومة إلى أداة دقيقة لإدارة الراهن السياسي. لا يُترك شيء للصدفة؛ كل ما يُتداول في الوسائط، كل شائعة، كل خبر، كل صورة، يُدار بحسابات معقدة، وموازين دقيقة، تشبه ميزان البارود. ولعلّ ما يعيشه كثيرون في السودان اليوم من ارتباكٍ داخليٍ حاد تجاه مواقف الحرب وأحداثها، هو تجلٍّ واضح لهذا التحكم الخفي. ذاك التوهان الذي يجعل الإنسان ممزقًا بين أخلاقه ومبادئه من جهة، وبين انتماءاته السياسية والاجتماعية والجغرافية من جهة أخرى، ليس صدفة، بل نتيجة مقصودة. إن من يمتلك القدرة على إدارة الحرب، يمتلك معها أدوات التحكم في المعلومة، ويوظفها بدقة لشلّ قدرة الأفراد على اتخاذ موقف واضح. فحين تملك المعرفة، والوعي، والضمير، لكنك تعجز عن اتخاذ موقف مشرف فهذا هو النجاح الكامل لاستراتيجية الإفراغ المعنوي. إفراغ المجتمعات من قدوتها، من رموزها، من قياداتها الجمعية، هو مفتاح السيطرة. لأن هذه المساحات، إن بقيت حية، تصنع فرقًا لا يُقاس، وتحدث توازنًا معرفيًا لا تحدّه جغرافيا ولا توقفه حدود. وقد تحدّثنا من قبل عن كيف تُسرب محاضر الاجتماعات، وتُوظّف الظواهر الشاذة إعلاميًا، وأغتيال الشخصيات القيادية المؤثرة في مجتمعاتها معنويًا عبر حملات ممنهجة. تُقطع المقاطع البشعة وتُعرض لجغرافيات محددة، تُنتقى اللحظات الأكثر استفزازًا، ثم تُغذى بها مشاعر الناس كما يُغذّى الوقود بالنار لا لشيء، سوى أن تظل الرغبة في الحرب مشتعلة، والنفوس مشحونة، والعداء لا يهدأ. هكذا، يصبح التحكم في المعلومة ليس مجرد أداة للسيطرة على الحاضر، بل لضمان ألا يكون هناك مستقبل مختلف. وفي زمن هذا الاختطاف المعرفي، ليس المطلوب من الناس معجزات. بل أن يتصرفوا كبشر أحرار، بقدر ما يستطيعون. فـ أصحاب الهمم، أولئك هم الذين لم يستسلموا للضجيج، هم من يصنعون الفارق، حتى لو بالكلمة، أو بالصمت الحكيم. ليس مطلوبًا من المرء أن يغيّر العالم، بل أن يتروّى قبل أن ينساق، وأن يتثبت قبل أن يشارك، أن يُبطِل السم قبل أن يسري، ويوقف الحماقة قبل أن تنتشر. وفي لحظة كهذه، قد تواجه بالهجوم، وقد تتهم بالخيانة، وقد ترى موجات من المغيّبين تنهشك بالكلام… لكن بثباتك، بثباتك فقط، قد تنقذ أرواحًا، ومجتمعات، وتُفشل مخططات كانت تنتظر منك فقط أن تندفع بلا وعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى