الأستاذ مصطفي عليش يكتب : السودان بعد عامين من الحرب لماذا لا نعترف بأننا فشلنا في العبور

السودان بعد عامين من الحرب لماذا لا نعترف بأننا فشلنا في العبور
بقلم: مصطفى عليش
أن تنتهي الحروب إلى لا شيء بين جميع الأطراف، فهذا في ذاته ليس مفاجئًا. فكم من صراع أهدر أعمارًا، ومزّق أوطانًا، وانتهى دون غالب أو مغلوب. ولكن ما هو مرعب فعلًا في الحرب السودانية ليس فقط الخراب والدماء، بل تلك اللحظة القاسية حين نكتشف أننا، بعد كل هذا الفقد، ما زلنا عالقين في نقطة الصفر بل في ما قبلها.
منذ اندلاع الحرب وحتى الآن السودان يغرق في دوامة عنف غير مسبوقة. الملايين نزحوا من بيوتهم، آلاف الأرواح أُزهقت، البنية التحتية تحولت إلى أطلال، والمدن الكبرى كأنما مسحتها يد الغضب من على الخريطة. لكن رغم كل هذه الفاتورة الثقيلة، السؤال المؤلم هو: إلى أين وصلنا؟
الجواب الأكثر مرارة: لم نصل إلى شيء.
بل إننا لم نخرج من المرحلة التي تسبق الحرب نفسها تلك المرحلة التي يتصارع فيها الجميع على تعريف الدولة، وهوية الجيش، وأولوية السلطة، بينما يتأرجح المواطن العادي بين الخوف والجوع والتيه. لم نقترب من أي إجماع، لم ننتج فكرة جديدة، لم نخطّ حتى بداية طريق يُبنى عليه مستقبل مختلف.
الأكثر إيلامًا، أن أغلب الذين توهموا التحرر من قبضة فئة باطشة، وجدوا أنفسهم أسرى تحت وطأة فئة أكثر ظلمًا وبطشًا. وهذا يعيدنا إلى لبّ الحقيقة الغائبة أو المغيّبة: أزمة السودان لم تكن يومًا أزمة سلطة أو فئة بعينها تتحكم في المصير، بل هي أزمة في التفكير والعقلية والموروث الاستعلائي المتجذر في جميع مكونات المجتمع السوداني.
كثيرون ممن سيقرأون هذا المقال يعرفون الحقيقة، لكنهم يتهربون من استحقاقاتها. ليس من العيب أن تعترف بأنك فشلت في تشخيص مشكلتك، وأنك حشدت لها كل مبررات الصحة والتعاطف. لكن العيب الحقيقي أن تأتي غدًا وتستخدم نفس الأدوات التي رفضتها بالأمس لتكون رافعة لإدارة الفشل من جديد.
ما لم نحرر أنفسنا من عقدة الاحتقار والدونية، ومن وصف بعضنا البعض بالعبيد، وتصنيف شرائح مجتمعنا إلى “حداحيد” و”نبلاء”، و”أهل عز” و”أهل زل”، فلن يتغير شيء. هذا الجرح الاجتماعي العميق، المتغذي على عنصرية موروثة ومسكوت عنها، سيبقى بؤرة للصراع والتمرد والانقسام. وهذا هو أسُّ أزمتنا مع أنفسنا، قبل أن تكون مع غيرنا.
لقد فشلنا لأننا نرفض الاعتراف بأن مشكلتنا الأولى فينا نحن في نظرتنا لبعضنا، في طريقتنا في إدارة الخلاف، في فهمنا للمنافسة، في تعاملنا مع التنوع. ما دمنا لا نملك الشجاعة لنقول: “نحن الأزمة”، فلن نخرج من هذا النفق. لأن منطق “الآخر هو السبب” يريح الضمير لكنه لا يبني أوطانًا.
السودان اليوم لا يحتاج فقط إلى وقف إطلاق النار، بل إلى وقفة حقيقية مع الذات الجمعية. يحتاج إلى نقد داخلي صادق، لا يُجامل فئة ولا يبرر لفشل. يحتاج إلى مصالحة مع الحقيقة: أن التغيير لا يُبنى بالبندقية ولا بالأحقاد، بل بتحول عميق في الوعي والضمير الجمعي.
في النهاية، ما يجعل هذه الحرب أكثر قسوة من غيرها، هو أنها لم تنقل السودان إلى الأمام ولا حتى إلى الوراء بل جعلته يعلق في الفراغ. ذلك الفراغ الذي لا حرب تُنهيه، ولا تسوية تُغنيه، ما لم نمتلك الشجاعة لننظر في المرآة، ونقول بصدق: هنا تبدأ الأزمة، وهنا يمكن أن يبدأ الحل.



