آراء ومقالات

الاستاذ مصطفى عليش يكتب : لقاء المحبة بيننا والوطن

لقاءٌ المحبة بيننا والوطن

بقلم:مصطفى عليش

في لحظة فارقة من التاريخ، يقف الشعب السوداني على تخوم الحلم والألم، يحاول أن يصافح مستقبله المجهول بيدٍ مثقلة بالحنين وذاكرةٍ لم تنطفئ. إنّه لقاءٌ ليس ككل اللقاءات، بل مواجهة صادقة مع الذات، مع التاريخ، ومع الوطن الذي يسكن القلوب وإن غابت عنه الأجساد.

في هذا الوطن، الذي نشتاق إليه شوقًا يُرهق الأرواح، لا تُقاس الحياة بعدد السنين، بل بلحظاتٍ خاطفة نُسرق فيها من الفرح، كما تُنتزع منا الأحلام في غفلةٍ من الزمن. لحظات نُراكمها في الذاكرة كأنها كنوز، من ظل “الحيشان” إلى رائحة البنّ في بيوت الأمهات، ومن ضفاف الأودية إلى تحت ظلال أشجار المنقَة، حيث كانت البساطة عنوانًا، والحب عفويًّا، والانتماء فطرة.

لكنّ الغربة، بما تحمله من بعدٍ وجفاء، تطفئ تلك اللحظات. لا لأننا ننسى، بل لأنّ ما يفصلنا عن الوطن ليس مجرد مسافات، بل فقدٌ متراكم، وحزنٌ يتكثف كلما حاولنا أن نتذكّر دون أن نبكي.

يظنّ البعض أننا لا نشتاق، ولا يعرفون أن الشوق لدينا طقسٌ يومي، يسرق النوم من العيون ويستدعي صور الطفولة من عمق الذاكرة. نشتاق حتى الألم، ونُعيد صياغة الحنين في صمتٍ ثقيل. نشتاق لكل ما كان، لكل من كان، لكل ما فقدناه في طرقات الوطن… حتى لأصوات الأذان المتقطعة بين الأزقة، لصوت المطر على الزنك، ولمذاق “العصيدة” في عزّ الونسة.

نُحب الوطن، لا لأنه كامل، بل لأنه وطن. نحبه وإن صار خرابًا، وإن سكنته الحروب، وإن ضاق بنا بما رحُب. فالحب الحقيقي لا يضع شروطًا، ولا يبحث عن الكمال، ولا يطلب مقابلًا. هو ارتباط أبدي، كالعقيدة، لا يتغير بتغير الفصول ولا يتبدل حين تشتد العواصف.
فيا من تساءل: “هل لا زلتم تشتاقون؟”
نعم، نشتاق… بل نُذيب أرواحنا شوقًا.
نشتاق لوطنٍ نحلم أن نلقاه ذات يوم، لا على هيئة ذكرى، بل واقعًا يعاد ترميمه من بين ركام الوجع.
نشتاق لوطنٍ نحلم أن يحتضن أبناءه، دون قيد، دون خوف، دون منفى. وطن نكتب فيه مستقبلنا بأيدينا، لا بأيدي الغير، ونعيد إليه الحياة التي سُلبت منه، والفرح الذي نُفي قسرًا عن أرصفته.
نحن على العهد، باقون، وإن بعُدت الطرق، وإن خانتنا الظروف… نُحب الوطن كما هو، لا كما يجب أن يكون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى